[center][size=18]
سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزلي من عهد قريب فتى في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره . وأحسب أنه طالب من طلبة المدارس العليا أو الوسطى في مصر .فقد كنت أراه من نافذة غرفة مكتبي ،وكانت على كثب من بعض نوافذ غرفته ،فأرى أمامي فتى شاحبا نحيلاً، منقبضاً جالساً إلى مصباح منير في أحدى زوايا الغرفة ينظر في كتاب أو يكتب في دفتر، أو يستظهر قطعةً أو يعيد درساً .
فلم أكن أحفل بشيء من أمره ،حتى عدت إلى منزلي منذ أيام بعد منتصف ليلة قرّة من ليالي الشتاء ، فدخلت غرفة مكتبي لبعض الشؤون ،فأشرفت عليه فإذا هو جالس جلسته تلك أمام مصباحه وقد أكب بوجهه على دفتر منشور بين يديه على مكتبه ، فظننت أنه لما ألم به من تعب الدرس وآلام السهر قد عبئت بجفنيه سنة من النوم فأعجلته من الذهاب إلى فراشه ،وسقطت به مكانه ،فما رمت مكاني حتى رفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان من البكاء ، وإذا صفحة دفتره التي كان مكباً عليه قد جرى دمعه فوقها فمحا من كلماتها ما محا ، ومشى ببعض مدادها إلى بعض ،ثم لم يلبث أن عاد إلى نفسه فتناول قلمه ورجع إلى شأنه الذي كان فيه .
فأحزنني أن أرى، في ظلمة ذلك الليل و سكونه، هذا الفتى البائس المسكين منفردا بنفسه في غرفة عارية باردة ، لا يتقى فيها عادية البرد بدثار .
ولا نار، يشكو هماً من هموم الحياة ، أو رزءا من أرزائها قبل أن يبلغ سن الهموم والأحزان ، من حيث لا يجد بجانبه مواسياً، ولا معيناً ، وقلت: لا بد أن يكون خلف هذا المنظر الضارع الشاحب ، نفس قريحة معذبة ،تذوب بين أضلاعه ذوباً ،فيتهافت لها جسمه تهافت الخباء المقّوض، فلم أزل واقفاً مكاني لا أبرحه ، حتى رأيته قد طوى كتابه ، وفارق مجلسه ، وأوى إلى فراشه ،فانصرفت إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله ، ولم يبق في سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباح فيأتي عليها .
ثم لم أزل أراه بعد ذلك في كثير من الليالي إما باكياً أو مطرقاً، أو ضارباً برأسه على صدره ، أو منطوياً على نفسه في فراشه ،يئن أنين الوالهة الثكلى ، أو هائماً في غرفته يذرع أرضها ، ويمسح جدرانها ،حتى إذا نال منه الجهد ،سقط على كرسيه باكياً منتحباً. فأتوجع له وأبكي لبكائه ، وأتمنى لو استطعت أن أدخله مداخلة الصديق لصديقه ، و أستبثه ذات نفسه وأشركه في همه، لولا أني كرهت أن أفجأه بما لا يحب، وأن أهجم عليه في سر ربما كان يؤثر الإبقاء عليه في صدره ، وأن يكاتمه الناس جميعاً. حتى أشرفت’ عليه ليلة الأمس بعد هدأة الليل ، فرأيت غرفته مظلمة ساكنة ، فظننت أنه خرج لبعض شأنه .
ثم لم ألبث أن سمعت أنةً ضعيفةً مستطيلةً ، فأزعجني مسمعها ، وخيّل إليّ أنها صادرة من أعماق نفسه، كأنني أسمع رنينها في أعماق قلبي، وقلت إن الفتى مريض ولا يوجد بجانبه من يقوم بشأنه ، وقد بلغ الأمر مبلغ الجد ،فلا بد لي من المسير إليه ، فتقدمت إلى خادمي أن يتقدمني بمصباح ، حتى بلغت منزله وصعدت إلى باب غرفته ، فأدركني من الوحشة عند دخولها ، ما يدرك الواقف على باب قبر يحاول أن يهبطه ليودع ساكنه الوداع الأخير .
ثم دخلت ،ففتح عينيه عندما أحس بي ، وكأنما كان ذاهلا أو مستغرقاً ، فأدهشه أن يرى بين يديه مصباحاً ضئيلاً ورجلاً لا يعرفه ، فلبث إلى شاخصاً هنيهة لا ينطق ولا يطرف ،فاقتربت من فراشه وجلست بجانبه ، وقلت : أنا جارك القاطن هذا المنزل ،وقد سمعتك الساعة تعالج نفسك علاجاً شديداً، وعلمت أنك وحدك في هذه الغرفة ، فعناني أمرك ، فجئتك علني أكون لك عوناً على شأنك ، فهل أنت مريض ؟
فرفع يده ببطء ووضعها على جبهته ، فوضعت يدي حيث وضعها ، فشعرت برأسه يلتهب التهابا ، فعلمت أنه محموم ،ثم أمررت نظري على جسمه ،فإذا خيال سار لا يكاد يتبينه رائيه ، وإذا قميص فضفاض من الجلد يموج في بدنه موجاً .
فأمرت الخادم أن يأتيني بشراب كان عندي من أشربة الحمى ، فجرعته منه بضع قطرات فاستفاق قليلاً، ونظر إليّ نظرة عذبة صافية ، وقال: شكراً لك .
فقلت: ما شكاتك أيها الأخ؟
قال:لا أشكو شيئاً .
فقلت:فهل مر بك زمن طويل على حالك هذه؟
قال:لا أعلم .
قلت:أنت في حاجة إلى الطبيب،فهل تأذن لي أن أدعوه إليك لينظر فيأمرك؟
فتنهد طويلاً ونظر نظرةً دامعةً وقال:إنما يبغي الطبيب من يؤثر الحياة على الموت .
ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه،فلم أجد بداً من دعاء الطبيب رضي أم أبى.فدعوته،فجاء متـأففاً متذمراً يشكو-من حيث يعلم أني لا أسمع شكواه- إزعاجه في مرقده، وتجشيمه خوض الأزقة المظلمة في الليالي الباردة،فلم أحفل بتعريضه لأنني أعلم طريق الاعتذار إليه. فجسّ نبض المريض، وهمس في أذني قائلاً:إن عليلك يا سيدي مشرف على الخطر ،ولا أحسب أن حياته تطول كثيراً إلا إذا كان في علم الله مالا نعلم. وجلس ناحيةً يكتب ذلك الأمر الذي يصدره الأطباء إلى عمالهم الصيادلة،أن يتقاضوا من عبيدهم المرضى ضريبة الحياة .
ثم انصرف لشأنه بعد ما اعتذرت إليه ذلك الاعتذار الذي يؤثره ويرضاه.فأحضرت الدواء وقضيت بجانب المريض ليلةً ليلاء ذاهلة النجم بعيدة ما بين الطرفين ،اسقيه الدواء مرة وأبكي عليه أخرى،حتى انبثق نور الفجر فاستفاق ودار بعينيه حول فراشه حتى رآني ،فقال:أنت هنا .قلت:أرجو أن أكون كذلك .
قلت:هل تأذن لي سيدي أن أسألك من أنت، وما مقامك وحدك في هذا المكان وهل أنت غريب في هذا البلد،أو أنت من أهله وهل تشكو داءً ظاهراً أو هماً باطناً؟
قال:أشكوهما معاً .
قلت:فهل لك أن تحدثني بشأنك،وتفضي إلي بهمك كما يفضي الصديق إلى صديقه،فقد أصبحت معنياً بأمرك عنايتك بنفسك .
فقال: هل تعدني بكتمان أمري إن قسم الله لي الحياة،وبإمضاء وصيتي إن كانت الأخرى؟
قلت:نعم .
قال:لقد وثقت بوعودك،فإن من يحمل في صدره قلباً شريفاً مثل قلبك لا يكون كاذباً ولا غادراّ .
أنا فلان بن فلان، مات أبي منذ عهد بعيد،وتركني في السادسة من عمري،فقيراً معدماً،لا أملك من متاع الدنيا شيئاً،فكفلني عمي فلان فكان خير الأعمام وأكرمهم وأوسعهم براً وإحساناً،وأكثرهم عطفاً وحناناً،فقد أنزلني من نفسه منزلاً عظيماً لم ينزلها أحدٌ من قبلي غير ابنته الصغيرة، وكانت في عمري أو أصغر مني قليلاً .
وكأنما سره أن يرى لها بجانبها أخاً بعدما تمنى على الله ذلك،زمناً طويلاً فلم يدرك أمنيته،فعني بي عنايته بها وأدخلنا المدرسة في يوم واحد ،فأنست بها أنس الأخ بأخته وأحببتها حباً شديداً،ووجدت في عشرتها من السعادة والغبطة ما ذهب بتلك الغضاضة التي لا تعاود نفسي بعد قد أبويّ من حين إلى حين.فكان لا يرانا الرائي إلا ذاهبين إلى المدرسة أو عائدين منها،أو لاعبين في فناء المنزل،أو مرتاضين في حديقته أو مجتمعين في غرفة المذاكرة ،أو متحدثين في غرفة النوم،حتى جاء يوم حجابها فلزمت خدرها واستمررت في دراستي .
ولقد عقد الودّ بين قلبي وقلبها عقداً لا يحله إلا ريب المنون،فكنت لا أرى لذة العيش إلا بجوارها ،ولا أرى نور السعادة إلا في فجر ابتساماتها،ولا أؤثر على ساعة أقضيها بجانبها جميع لذات العيش ومسرات الحياة،وما كنت أشاء أن أرى خصلة من خصال الخير في فتاة من أدب أو ذكاء أو حلم أو رحمة أو عفة أو شرف أو وفاء إلا وجدتها فيها .
وأني أستطيع وأنا في هذه الظلمة الحالكة من الهموم والأحزان أن أرى على البعد تلك الأجنحة النورانية البيضاء من السعادة التي كانت تظلنا معاً أيام طفولتنا،فتشرق لها نفسانا إشراق البسمة على ثغر الوليد ........
ولا أعلم هل كان ما كنت أضمره في نفسي لابنة عمي وداً وإخاءً أو حباً وغراماً،ولكني أعلم أنه كان بلا أمل ،ولا رجاء.فما قلت لها يوماً إني أحبها لأني كنت أضّن بها-وهي ابنة عمي ورفيقة صباي- أن أكون أول فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبها.ولا قدّرت في نفسي يوماً من الأيام أن أصل أسباب حياتي بحياتها،لأني كنت أعلم أن أبويها لا يسخوان بمثلها على فتىً بائس فقير مثلي. ولا حاولت في ساعة من الساعات أن أتسقط منها ما يطمع في مثله المحبون المتسقطون لأني كنت أجلّها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك.ولا فكرت يوماً أن أستشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها،لأعلم أي المنزلتين أنزلها من قلبها،أمنزلة الأخ فأقنع منها بذلك؟أم منزلة الحبيب،فأستعين بإرادتها على إرادة أبويها؟بل كان حبي لها طاهراً عفيفاً يملأ جوانح النفس وشغاف القلب .
ولم يزل هذا شأني،حتى نزلت بعمي نازلةٌ من المرض لم تنشب أن ذهبت به إلى جوار ربه،وكان آخر ما نطق به في آخر ساعات حياته أن قال لزوجته،وقد كان يحسن بها ظناً:"لقد أعجلني الموت عن النظر في شأن هذا الغلام ،فكوني له أماً كما كنت له أباً،وأوصيك ألا يفقد مني بعد موتي إلا شخصي ."
فما مرت أيام الحداد حتى رأيت وجوهاً غير الوجوه،ونظرات غير النظرات،وحالاً غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل ،فتداخلني الهم واليأس ووقع في نفسي للمرة الأولى في حياتي أنني قد أصبحت غريباً،وفي هذا العالم طريداً .
فإني لجالس في غرفتي صبيحة يوم ،إذ دخلت علي الخادمة ،وكانت من النساء الصالحات المخلصات ،فتقدمت نحوي خجلةً متعثّرة،وقالت:لقد أمرتني سيدتي آن أقول لك يا سيدي، إنها ترى أن بقاءك بجانبها بعد موت أبيها ،وبلوغكما هذه السن التي بلغتماها،ربما يريبها عند خطيبها،وإنها تريد أن تتخذ للزوجين مسكناً هذا الجناح الذي تسكنه من القصر،فهي تريد أن تتحول إلى منزل آخر تختاره بنفسك من بين منازلها على أن تقوم لك فيه بجميع شأنك ،وكأنك لم تفارقها .
فكأنما عمدت إلى سهم طائش أصابت به كبدي،إلا أنني تماسكت قليلاً ريثما قلت لها:سأفعل إن شاء الله،ولا أحب إليّ من ذلك.فانصرفت لشأنها.فخلوت بنفسي ساعة أطلقت فيها السبيل لعبراتي ما شاء الله أن أطلقها.حتى جاء الليل فعمدت إلى حقيبتي ،فأودعتها ثيابي وكتبي،وقلت في نفسيً "قد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش بجانب ذلك الإنسان الذي أحببت نفسي من أجله،وقد حيل بيني وبينه،فلا آسف على شيء بعده ."